قـــل ســـــيروا فـــي الأرض فانظــــروا كيـــف بـــدأ الخلـــق
منصور العبادي
لو أن "تشارلز دارون" كان عربًيا مسلمًا لحسبت أنه قد سمع قول الله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" العنكبوت 20 فامتثل لهذا الأمر الرباني فركب في عام 1831م إحدى سفن الاستكشاف الإنكليزية فجابت به على مدى خمس سنوات متواصلة مناطق كثيرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية والتي تعج بأنواع لا حصر لها من الكائنات الحية. ولقد كان دارون خلال هذه الرحلة الطويلة دائم البحث والنظر لا يترك نوعا من أنواع الكائنات الحية تقع عليه عينيه إلا وسجل صفاته وخصائصه ومواقع عيشه وأوجه الشبه بينه وبين بقية أنواع الكائنات بل تجاوز ذلك ودرس أشكال الحياة المنقرضة التي عثر عليها محفوظة على شكل متحجرات في طبقات الصخور. وبعد أن عاد دارون من رحلته المثيرة هذه مكث أكثر من عشرين سنة يدرس ويقارن أشكال الحياة التي شاهدها أثناء رحلته واضعا نصب عينيه هدف الوصول إلى تفسير مقنع لظهور هذا الكم الهائل من أشكال الحياة على الأرض. وقد توج دارون جهوده هذه بوضعه لأول نظرية بنيت على أسس علمية تجريبية وقد سميت هذه النظرية بنظرية التطور والتي قام بنشرها في كتابه الشهير "أصل الأنواع" وذلك في عام 1859م. لقد حاول دارون من خلال هذه النظرية الإجابة على بعض التساؤلات التي دارت ولا زالت تدور في أذهان كثير من البشر حول الطريقة التي نشأت بها الحياة على الأرض والكيفية التي ظهر بها هذا الكم الهائل من أنواع الكائنات الحية. والعجيب أن لا يوجد بين هذه الملايين من أنواع الكائنات الحية إلا كائن واحد له القدرة على التفكير فيما حوله من مخلوقات وتثار في عقله مثل هذه التساؤلات. ومن المؤسف أن كثيرا من البشر يقومون بطرد هذه التساؤلات من عقولهم كي لا توصلهم الإجابة عليها إلى حقيقة أن هنالك خالقا لا حدود لعلمه وقدرته يقف وراء تصنيع هذه المخلوقات. وبتعطيل البشر لعقولهم ومنعها من التفكير في عجائب هذا الكون فإنهم يساوون أنفسهم ببقية الكائنات الحية التي لا هم لها إلا الأكل والشرب فينطبق عليهم قوله تعالى "أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا" الفرقان 44، والقائل سبحانه "وكأيّن من ءاية في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون" يوسف 105.
لقد اختلف الناس على مر العصور حول الكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض وكانت آراؤهم إما مبنية على أراء فلسفية بحتة أو مستندة إلى بعض الإشارات المذكورة في الكتب المقدسة. لقد كان الرأي السائد في العصور القديمة أن الكائنات الحية موجودة على الأرض منذ الأزل وبالأنواع والأشكال التي هي عليها الآن وقد قل أنصار هذا الرأي اليوم بعد أن أثبت العلماء بما لا يدع مجالا للشك بأن هذا الكون حادث وليس أزلي. وفي هذا العصر انقسم البشر إزاء نشأة الحياة إلى فريقين: فريق يقول أن الحياة نشأت نتيجة لتحول تراب الأرض بطريق الصدفة إلى كائنات حية بدائية بدأت بالتطور بشكل تدريجي لتنتج هذا الكم الهائل من أشكال الحياة ويلقب القائلون بهذا الرأي بالتطوريين. ويعتمد التطوريين في دعم موقفهم هذا على الطرق العلمية التجريبية في دراسة مختلف أشكال الحياة ابتداء من تركيب الخلايا الحية والمواد العضوية التي بنيت منها وإنتهاء بتركيب أجسام الكائنات الحية وكذلك السير في الأرض لدراسة مختلف أشكال الحياة. أما الفريق الآخر فيعتقد بأن الله هو الذي خلق جميع هذه الكائنات الحية بالأشكال التي هي عليها الآن من تراب الأرض مباشرة وفي فترة محددة من الزمن وينفون بشكل قاطع عملية تطور الكائنات من بعضها البعض ويلقب القائلون بهذا الرأي بالمؤمنين بالخلق المباشر. ولكن الخلقيين على عكس التطوريين لا يوجد عندهم تصور واضح للكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض بل إنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنها رغم وجود نصوص كثيرة في الكتب المقدسة تحثهم على كشف أسرار نشأة الحياة. لقد سبق القرآن الكريم دارون بما يزيد عن ألف ومائتي عام في طرحه لفكرة السير في الأرض كوسيلة لمعرفة الكيفية التي نشأت بها الحياة على الأرض وذلك في قوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثمّ الله ينشئ النشأة الأخرة إنّ الله على كلّ شيء قدير" العنكبوت 20. ومن المؤسف أن لا يمتثل البشر وخاصة المسلمون منهم لهذا الأمر الرباني فيسيروا في الأرض لمعرفة كيف بدأت عملية خلق الحياة من تراب هذه الأرض. وتقرر هذه الآية حقيقتين مهمتين أولهما أن هنالك بداية زمنية محددة ظهرت بها الحياة على الأرض وثانيهما أنه يوجد في الأرض من الأدلة ما يكفي لإرشاد البشر لمعرفة كيف نشأت هذه الحياة. وفي صيغة الماضي لكلمة بدأ إشارة صريحة إلى أن مرحلة تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة قد حدثت لمرة واحدة حيث لا يوجد ما يدل على استمرار حدوثها في الوقت الراهن. وفي قوله تعالى "ثمّ الله ينشئ النشأة الأخرة إنّ الله على كلّ شيء قدير" في نفس هذه الآية إشارة لطيفة إلى أن الطريقة التي سيتم بها إعادة خلق الكون بما فيه من مخلوقات بعد أن يفنيه الله في المرة الأولى ستكون من خلال قوله له كن فيكون وذلك على عكس طريقة خلقه في المرة الأولى والتي امتدت على فترة محددة من الزمن ووفق قوانين أودعها الله هذا الكون. ويتأكد هذا المعني في قوله تعالى "والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا" نوح 17-18 وقوله تعالى "ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون" يس 51 وقوله تعالى "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنّهم إلى نصب يوفضون" المعارج 43.
يتبع